قصيدة وظلّ.. بقلم: هايل عزيزي ..الجزء الأول

 منذ بدأت مسيرته الأدبية، أبصر الأستاذ عبد الله البردوني الحياة بقلبه...   فكان يرى الأشياء على حقيقتها في زمن معظم من فيه أكفّاء، يرون بأعينهم لا بقلوبهم وشتان بين ذا وأولئك!!

 نعم إن لكل شاعر في الواقع مخيلّةً، إلا البردّوني فقد كانت مخيّلته هي الواقع!!

وحتى اليوم ما يزال حاضراً بقوة في الساحة الأدبية، رحل عنا بجسده وترك لنا روحه ترفرف شعرا ونثرا!!

غُص في أغوار قصائده، وستجد روحَه تُطلّ منها، وتتحدث إليك بتفاصيلَ دقيقة للغاية.. تبعث فيك التساؤل تارة، وتشعل فيه الحماس والثورة تارة أخرىٰ!!  ولا أبالغ إن قلت إنه قفز بنظرته إلى مربع المستقبل من واقع قراءته للأحداث وخبرته بالمسارات السياسية والاجتماعية، راسماً ملامح القادم بملاحم الحروف!!

 أما القصيدة التي بين أيدينا اليوم، فهي - بحد ذاتها- أمَّـةٌ من الشعر، وحضارة من الإبداع، و عالم من المشاعر!!! لها مُناخ أدبي متفرد وطبيعة روحانية ذات أحاسيس خلابة جميلة!!!

ولذلك نحن مدعوون هذه المرة للسياحة في جغرافيتها النبوية والاستمتاع بجمالها الساحر، وبيانها الآسر.. والتأمل في تفاصيلها واكتشاف بعض أسرارها!!

فللقصيدة هندسة بديعة وفريدة ، إذ لا يستطيع الدهر  أن يغير ملامح  بنائها ،وكلما أتى زمنٌ برزت هذه القصيدة كما ولدت أول مرة!!! .. وقد وقفتُ مرتين -من قبل- وأنا أتنزه بين روابيها و واحاتها وقفة المتأمل، و زرت الوادي الذي هام فيه البردوني حُباً بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدت في المرة الأولى أبياتاً ترفل في ثياب الفرحة بقدوم أعظم بشرى!!! وأي بشرى؟ إنها بشرى النبوة!! ولمن؟  إنها للكون وللعالمين وللبشرية جمعاء!!

و وقفت مرة أخرى فوجدت  أبياتاً أخرى  منها  غاضبة تطلق صرخةً في وجوه الطغاة والمستكبرين ، وتشكو إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) واقعَ الأمةِ وما وصلت إليه

فدعونا نرحل معا لنرى هذا المشهد العظيم بعدسة الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني ..

المطلع:

بُشْرَى مِنَ الغَيبِ أَلْقَتْ فِي فَمِ الغَارِ

وَحْيًا وَأَفْضَتْ إِلَى الدُّنْيَا بِأَسْرَارِ

 أطلّ الشاعر علينا من شرفة قريحته، وصور لنا بعدسة قلبه مشهداً بديعاً فريدا... لنشاهد تلك البشرى الجميلة كطائر جاء من عالم الغيب، يلقي الوحي في فم الغار ،  ويفضي إلى الدنيا  بأسرار  ليست كأي أسرار !!

ثم ماذا بعد؟ وماهي تلك الأسرار التي تحملها هذه البشرى؟

بُشْرَى النُّبُوَّةِ طَافَتْ كَالشَّذَى سَحَرًا

وَأَعْلَنَتْ فِي الرُّبَا مِيلاَدَ أَنْوَارِ

وضح لنا الشاعر الصورة ، فرأينا أن تلك البشرى هي بشرى النبوة فهي بعد أن ألقت الوحي طفقت  تطوف في السحر ،والسَحَر هو وقت الهدوء العميق الذي  منح البشرى طابعاً روحانياً ، وأضفي سحراً خاصاً على المشهد!!   ثم شبه هذه البشرى الجميلة حينما طافت بالشذى حين ينتشر  فهي كرائحة عطر السماء الزكي الذي انتشر فواحا  معلنا في كل الربى ميلاد أنوار تمحو دياجير الظلم  جاءت لتخرج العالمين - بهذا الإعلان الأهم على الإطلاق في تأريخ البشرية -من الظلمات إلى النور !!

فهذه  البشرى لم تكن خبراً يرتبط بالسمع فحسب ، لأن البشرى دائما تأتي عن طريق الإخبار !! لقد ربطها الشاعر  بحاسة الشم أيضاً، وهي من أرقى الحواس حينما قال كالشذى !!

وَشَقَّتِ الصَّمْتَ وَالأَنْسَامُ تَحْمِلُهَا

تَحْتَ السَّكِينَةِ مِنْ دَارٍ إِلى دَارِ

وَهَدْهَدَتْ "مَكَّةَ" الوَسْنَى أَنَامِلُهَا

وَهَزَّتِ الفَجْرَ إِيذَانـًا بِإِسْفَارِ

ثم إنها بعد أن طافت كانت تشق الصمت بهذا الإعلان !!

ونلاحظ قوة الفعل (شقت)والشَّقُّ لا يكون الا للحجب الصلبة، يقال : شق الصخرَ و شق النفقَ وانشقت السماء .. الخ وهنا أحال الشاعر الصمت الى شيء ملموس كالجدار الصلب، أو الستار القوي العازل، ليؤكد لنا   ان هذه البشرى لم تتسلل خفية بل جاءت تشق الصمت شقا وكانت تحملها أنسام السحر تحت السكينة

ثم حينما قال (من دار إلى دار ) أراد بذلك تأكيد  شمولية البشرى وانتشارها السريع الهادئ لتتناقل كل الديار هذا الخبر  العظيم المبشر بعهد جديد!!

  ثم جعلت تهدهد بأناملها مكةَ كي تطمئن مكةُ وتأمن وهذه الانزياحات تدهش المتلقي وتوسع إدراكه ..

ولكن ما يلفت النظر بشدة هنا أن الشاعر لم يجعلنا نسمع ونتخيل فقط !!

بل أخذنا بأسلوب شائق ماتع لنشاهد السحر والفجر ونعيشهما ونشم الشذى ونتعطر به  ونتنفس الأنسام ونستمتع بها حتى  تنتعش الأرواح!!

 وفي كل ما سبق اشارات رمزية تم توظيفها بشكل جميل ورائع وتمت هندستها بإتقان!!

***

ثم يلمس  البردوني  (زر التكبير) لتقريب الصورة فنرى لحظة وصول الفجر وهو آتٍ من خلف تلال بعيدة   !!

فَأَقَبَلَ الفَجْرُ مِنْ خَلْفِ التِّلاَلِ وَفِي

عَيْنَيهِ أَسْرَارُ عُشَّاقٍ وَسُمَّارِ

اقبل الفجر الذي التقطته عدسة البردوني كأنه ضيف عزيز وهنا صورة تبعث الأنس وتمنح  الزمن روحا متحركة كأنه كائن حي!!

ثم ينقل لنا صورة بصرية أخرى

من خلف التلال وهذه الصورة تخلق احساسا بانتظار الفجر و ظهوره التدريجي!!

 و يقرب الصورة أكثر حتى نرى عينَي الفجر،  تحمل أسرارا لعشاق وسمار كانوا ينتظرون بزوغ هذا الفجر!!

وينقلنا الى التالي  بتقنية تركيز متقدمة  لنرى مشهدا آخر بعد وصول الفجر وهو مشهد الربى والسفوح بعد ان محا الظلامَ الفجرُ فيقول:

كَأَنَّ فَيضَ السَّنَا فِي كُلِّ رَابِيَةٍ

مَوْجٌ وَفِي كُلِّ سَفْحٍ جـَدْوَلٌ جـَارِي

(تشبيه مزدوج )

فيض السنا هو الضوء الساطع المتدفق و (فيض) هنا أضاف  معنى الانسكاب، و الوفرة  ،والتدفق ،فبدت  الصورة كأنها مائية ضوئية!!

و(الربى والسفوح) هنا صورة أخرى تخلق حركة ديناميكية جميلة بين المرتفعات والمنحدرات !!

حيث أصبح موج السنا يغمر  الربى وعلى السفوح تجري جداولُ من نور ولم يعد لظلام الجاهلية محلّ!!!

ويتابع :

تَدَافَعَ الفَجْرُ فِي الدُّنْيَا يَزُفُّ إِلَى

تَارِيخِهَا فَجْرَ أَجْيَالٍ وَأَدْهَارِ

أي جاء الفجر  بحشوده الضوئية وهي تتدافع  ليزف إلى الدنيا خبر ميلاد النور ، يعلنها إعلانا أبديا والفجر هنا  هو بداية عهد جديد في التاريخ!!  والتكرار المعنوي لكلمة (فجر)  هو ربط بين الظاهرة  والتحول الحضاري

ويمكن ان نستنتج من الأبيات السابقة  الركائز الأساسية للمسيرة المباركة التي بدأها الرسول  وهي المنهج والقيادة والأمة

كالتالي

الأمواج الضوئية = انتشار الهدى ( المنهج)

الفجر =ميلاد النبوة(القيادة)>>>[الرسول هو القائد]

التلال والسفوح= يسكنها البشر وهي (الأمة)!!

أما حرف الفاء في (فأقبل) و (فجر) و (فيض) و حرف الجر (في) أحدث موسيقى داخلية تشبه صوت  الفجر!!

واستخدامه لـ

أجيال و أدهار =يعني توحيد للزمان والمكان !!

وقد تدرج بالحركة من الخفاء(الصمت) الى الظهور(إقبال الفجر) الى التدافع (تدافع الفجر في الدنيا يزف إلى)!!

واستقبلَ الفتحُ طفلًا في تبسُّمِه

آياتُ بشرى و إيماءاتُ إنذارِ

 هنا الطفل ليس مجرد مولود بل تجسيد للتأريخ الذي يولد من جديد وهو بعد ميتافيزيقي صرف استخدمه الشاعر..

وحيث يقيم الضوء ويزيح  الستار يتجلى الفتح وهو يستقبل ذلك الطفل(الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)

نلاحظ كيف صور البردوني ابتسامة الرسول الاكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذه( الدقة العالية) من القرآن الكريم :

 (آيات البشرى )و (إيماءات الإنذار)!!

مقتبسا ذلك من قوله تعالى( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا(*) وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا).

وينتقل بنا إلى مرحلة مهمة :

و شَبَّ طفلُ الهدى المنشود متّزرًا      

بالحقّ متّشحًا بالنورِ و النارِ

المنشود اي المنتظر منذ الأزل

وهنا يصور الرسول الأكرم بشيرا ونذيرا وهو يجمع بين صفتين متكاملتين:  الهداية من جهة والقوة من جهة أخرى وهي صورة قوية رائعة بديعة ومتلازمة الجلال وهي (النور والنار )

في كفِّه شعلةٌ تهدي و في فمهِ

 بشرى و في عينِه إصرارُ أقدارِ

وهنا تأكيد على أن ما يحمله ليس مجرد نور فحسب بل نور دال على الحق وموصل إلى الطريق المستقيم

(وفي فمه بشرى) أي أن هذه  البشرى دائمة!!

 ( وفي عينه إصرار أقدار) أي أن الإرادة والعزيمة التي يحملها هي أمور محتومة  و الغرض منها تصوير أن عينيه تعكسان إرادة لا تقهر ..

و في ملامحِهِ وَعْدٌ و في دمهِ 

بطولةٌ تتحدَّى كلَّ جبَّارِ

واذا تخيلنا ملامح الرسول الأعظم فهي ليست كأي ملامح إنها لوحة نبوية تخبر بالمستقبل قبل وقوعه تبشر وتنذر والدم هنا ليس ماديا بل قوة روحية ربانية وثورة  تتحدى الطغاة والجبابرة 

وقد لاحظنا في الأبيات السابقة المفارقة الدراماتيكية العجيبة لطفل في تبسمه( بشرى، وإنذار) !! وشاب يتوشح (النور والنار)!!

أما الإيقاع الموسيقي الداخلي لحرف الباء  في (بالحق ،بالنور ،بطولة ،جبار) يخلق نغمة كأنها دقات سيف في معركة مقدسة!!

وهذا أشبه بالبث المباشر الحي الذي يعرض لنا مشاهد اختزلت المراحل التي مرت  بها شخصية أعظم قائد في التأريخ!!!