• العنوان:
    الإمَـام زيد.. ثورةٌ لا تُدفن
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

في زمنٍ كان الصمت فيه خيانة، وكان الانحناء أمام الطغيان ديدن الكثير من العلماء والفقهاء والساسة، خرج الإمَـام زيد بن علي عليه السلام شاهرًا صوته وسيفه في وجه الظلم، لا ليؤسس مذهبًا فقهيًّا، ولا ليصنع لنفسه مجدًا شخصيًّا، بل ليعيد للمسلمين معنى الإيمان الحق الذي يتجلى في مقارعة الظالمين والاصطفاف إلى جانب المظلومين.

لم يكن الإمَـام زيد عليه السلام صاحبَ مشروع مذهبي يبحثُ عن أتباع، بل كان صاحبَ مشروع قرآني يبحثُ عن نهضة للأُمَّـة، عن وعي، عن ثورة تبدأ من داخل النفس وتنتهي في مواجهة عروش الطغيان. لقد مثّل نموذج المسلم الواعي الصادق الذي لا يتركه كتاب الله ساكتًا على منكر، ولا يدعه ساكنًا أمام استبداد.

حين وقف عليه السلام أمام فقهاء السلطة وقادة الجور، كان واعيًا أن دين الله لا يُختزل في عبادة جوفاء ولا في تأويلات محنطة، بل في حركة واعية نابعة من آيات القرآن، ترجمتها العملية تكون في موقف، وموقف الإمَـام زيد لم يكن إلا ثورة.

قد يسأل المرء: أين قبر الإمَـام زيد؟ والحقيقة أن هذا السؤال هو أول الطريق لفهم عظمة هذا الرجل. فالرجل الذي عاش قرآنًا ناطقًا ومجاهدًا فذًّا، لم تكن الأرض لتحتضنه في مكانٍ محدّد. لقد ذاب جسده الطاهر في مياه الفرات بعد أن تم التمثيل به وإحراقه، لتختلط ذراته بماء السماء ونبات الأرض، وكأن روحه شاءت أن تبقى حاضرة في كُـلّ مكان، تسري في عروق المجاهدين وتنهض في قلوب الثائرين. هو الوحيد الذي ارتوى منه العطاشى دون أن يروه، وارتفعت هممهم بنور ثورته دون أن يلمسوا ترابه.

إن عظمة الإمَـام زيد تكمن في أنه لم يكن مُجَـرّد قائد عسكري ولا فقيه منزوٍ في أروقة الكتب، بل كان جامعًا بين الفكر والسيف، بين البصيرة والدم، بين الثقافة القرآنية والثورة على كُـلّ أشكال الانحراف.

ثورة الإمَـام زيد ليست حدثًا تاريخيًّا يُحتفى به كُـلّ عام وحسب، بل هي مشروع مُستمرّ، مدرسة مفتوحة، منهج متكامل في التحرّر والنهوض. لقد قالها بملء إرادته: "والله ما يدعني كتاب الله أن أسكت"، وهي ليست مُجَـرّد عبارة عابرة، بل إعلان صريح أن القرآن – عند المؤمنين الحقيقيين – لا يُقرأ للبركة فقط، بل يُقرأ للتحَرّك، للمواجهة، للرفض، للقيام. والقيام عند الإمَـام زيد كان شعارًا وواقعًا، موقفًا وسيفًا، صوتًا ودماء.

فحين تقرأ ثورته، لا ترى حراكًا عاطفيًّا أَو ردة فعل آنية، بل ترى وعيًا عميقًا تشكّل في مدرسة أهل البيت، وفهمًا دقيقًا للقرآن الكريم، وامتدادا أصيلًا لثورة جده الحسين عليه السلام. فالحسين كان الدم الصارخ في وجه يزيد، وزيد كان الصدى الذي لم ينكسر بعد عقود من الصمت، فصرخ في وجه هشام وأعوانه.

عجيبٌ هو الإمَـام زيد؛ فكل المذاهب تحمل أسماء مؤسّسيها، أما هو فقد رفض أن يُحوّل نضاله إلى طقوس، أَو حركته إلى مُجَـرّد "مذهب فقهي". ما تركه زيد كان أعظم من ذلك؛ ترك وعيًا متحَرّكًا، وشرارة متقدة، ومنهجًا لا يُقيد بالمصطلحات، بل يُصاغ في ساحات الكرامة والعزة.

إن من يقرأ سيرة الإمَـام زيد عليه السلام لا يملك إلا أن يتساءل: هل نحن اليوم أوفياء لهذه الروح؟ هل نقرأ القرآن كما قرأه زيد؟ هل نحيا القضية كما عاشها هو؟ وهل نثور على الظلم كما ثار؟

في زمننا هذا، حَيثُ تتزاحم الفتاوى حول الجزئيات، وتُخرس الأصوات الحرة باسم "المصلحة"، ويُتهم المقاومون بأنهم "مغامرون"، تبقى ذكرى الإمَـام زيد صوتًا نبويًّا يجلجل في الآفاق.

لا قبر له، نعم. لكن له في كُـلّ قلب قبر، وفي كُـلّ موقف صادق مزار، وفي كُـلّ دمعة حرقة مديح، وفي كُـلّ جبهة مقاتل حيٌّ لا يُنسى. زيد ليس ماضيًا، بل هو الحاضر والمستقبل، هو الرمز والقُدوة، هو الإمَـام الذي لا تموت قضيته؛ لأَنَّه ببساطة... جعل من القرآن قائده، ومن الجهاد سبيله، ومن الله غايته.