تسكن الأنظمة العربية المطبِّعة خلف ستائر العجز والعار، وكأن لا دماء تُسفك في غزة، ولا أطفال تُنتشل من تحت الركام؛ إذ لم يعد هذا الموقف مُجَـرّد تخاذل؛ بل تواطؤ موثق ومُخزٍ، أسقط أقنعة طالما ارتدوها للمتاجرة بفلسطين وقضيتها.

في المقابل، يبرز اليمن، أرض الحكمة والإيمان والمروءة، كنموذجٍ استثنائي من الوفاء للقضية، شعبًا وجيشًا وقيادة، يواجه العدوان الصهيوني الأمريكي من البحر إلى الجو، ويعيد إلى فلسطين روح النصرة والأُخوَّة وحرارة التضامن الفاعل.

وفي مشهدٍ يُختصَر فيه معنى التأثير الحقيقي، أعلن الاحتلال الصهيوني رسميًّا عن إغلاق ميناء "أم الرشراش" ابتداءً من الأحد المقبل؛ نتيجة الحصار البحري الخانق الذي تفرضه القوات المسلحة اليمنية.

صحيفة "جلوبس" العبرية نقلت اليوم الأربعاء، عن هيئة الشحن والموانئ الإسرائيلية إشعارًا صريحًا بتعطيل جميع أنشطة الميناء، بدءًا من السفن والقاطرات، إلى توقف تصدير البوتاس والمواد الكيميائية، وانقطاع المساعدة اللوجستية للبحرية في البحر الأحمر، وإغلاق الأنظمة الكهربائية والرافعات.

وفيما لم تكتفِ صنعاء بإغلاق البحر، مسببةً هذه الخسائرَ اللوجستية، التي تعد ضربةً في صميم ما تبقى من أمن اقتصادي صهيوني في العمق البحري الجنوبي؛ مدّت يدها إلى السماء، لتفرض من جديد حظرًا جويًّا على مطار اللُّد المسمى صهيونيًّا "بن غوريون".

وسائل الإعلام المختلفة رصدت عبور صاروخ باليستي قادم من اليمن باتّجاه العمق الفلسطيني المحتلّ، وسُمعت على إثره صافرات الإنذار في قاعدة "نيفاتيم" والبحر الميت والنقب وبئر السبع، وهرعت ملايين المستوطنين إلى الملاجئ.

وكشفت وسائل الإعلام العبرية حجم الهلع بإعلان القناة الـ 12 عن تعليق الملاحة الجوية مؤقتًا في المطار الدولي الاستراتيجي، وسط تعليمات التحصّن في الملاجئ، في مشهدٍ يثبت أن الردع اليمني بات يخترق طبقات الأمن الإسرائيلي، ويعمق تهدّد كيانه في عقر داره.

وفقًا لمراقبين؛ فاليمن وجّه رسالةً استراتيجيةً ومعنوية، مُستمرّة التأكيد على أن غزة لن تبقى وحدَها، ومن يقتل الأطفال سيدفع ثمنًا سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا.

التصعيد اليمني في هذا التوقيت -بحسب خبراء- يُحرِجُ الولايات المتحدة وبقية حماة الكيان، ويجعل من استمرار العدوان على غزة مشروعًا مُكلِفًا حتى لأكبر داعميه.

العمليات اليمنية قلبت المعادلات، وأسقطت مزاعمَ التفوق الإسرائيلي، وكشفت هشاشة بنيته الاجتماعية والسياسية، حَيثُ الانقسامُ الداخلي في ذروته، والاحتجاجاتُ ضد الحرب تتزايد، والمطالبة بإقالة نتنياهو تتوسع، والانهيار يتسلّل إلى مفاصل حكومة الإحرام.

ما لم يُحقّقه العرب مجتمعين في خمسة عقود، بدأ اليمن يُنجِزُه بصواريخه البالستية وطائراته الانقضاضية وحصاره البحري في بضعة أشهر.

إذ لم يعد كيان الاحتلال فوق القانون، ولا قادرًا على ضبط إيقاع الحرب؛ بل باتت مطاراتُه تحت التهديد، وموانئهُ تُغلَق، وأسواقهُ تتراجع، وتحالفاتهُ تتصدع.

الأنظمة التي راهنت على الخارج والتطبيع وخسرت الرهان، لم تستوعب بعد أن المقاومة لا تحتاج إذنًا أمريكيًّا أَو غربيًّا، وأن الشعوب -متى ما حظيت بالقيادة والرؤية- قادرةٌ على تغيير المعادلة.

اليمن لا يقاتل؛ مِن أجلِ غزة فقط؛ بل مِن أجلِ شرف كل الأُمَّـة، ومن أجل كسر قيدٍ طال أمدُه، ليقول في كُـلّ صاروخ، وكل إغلاق لميناء، وكل إنذار في عمق يافا المحتلّة: لن ننسى، ولن نسكت، ولن نقايض الحق بالسلام الزائف، ولن نقبل أن تكون فلسطين وحدَها في الميدان.