َعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبِين، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

أَيُّهَـــــا الإِخْـــــــوَةُ وَالأَخَـــــــوَات:

السَّــــــلَامُ عَلَيْكُـــمْ وَرَحْمَـــــةُ اللَّهِ وَبَـرَكَاتُـــــهُ؛؛؛

وَعَظَّمَ اللَّهُ لنَا وَلَكُمُ الأَجْر، فِي ذِكْرَى اسْتِشهَادِ الْإِمَامِ الشَّهِيد/ زَيدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيّ "عَلَيْهِمُ السَّلَامُ".

هذه الذكرى التي تذكِّرنا بهذا الرمز العظيم من رموز الإسلام وهداة الأُمَّة، والتي نحييها لما يعنيه لنا، ما يعنيه لنا الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وهو الرمز العظيم، الذي له إسهامه الكبير في إحياء الحق، وإقامة الدين الإسلامي، والتَّصَدِّي للطاغوت، الإسهام الذي امتد في الأُمَّة جيلاً بعد جيل، فنحن حينما نحيي هذه الذكرى فلما يعنيه لنا الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، ونحن نستلهم منه الدروس العظيمة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها في عصرنا هذا ومرحلتنا هذه، ولما في الحادثة نفسها من دروسٍ وعبرٍ مهمة، ونحن في أمسِّ الحاجة كأُمَّةٍ تواجه التحديات والأخطار إلى الاستفادة من تاريخها، بما يزيدها وعياً، وبصيرةً، وشعوراً بالمسؤولية، وإدراكاً لأهمية الأمور، التي لفت القرآن الكريم نظرنا إليها، أهمية القيام بها، ومخاطر التفريط فيها.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" هو من سلالة بيت النبوة، ومعدن الكرامة، أبوه: زين العابدين، وسيد الساجدين، علي بن الحسين، وجده: هو سبط رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، الإمام الحسين "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، والإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" هو المعروف بين كل الأُمَّة بكماله الإيماني العظيم، ومنزلته الكبيرة والعالية، ودوره المميَّز، الذي أسهم فيه بشكلٍ كبير في إحياء الحق، والتَّصَدِّي للظلم والطاغوت، يحظى بالمكانة المحترمة بين كل فرق الأُمَّة، ويعترف الجميع له بعلو المنزلة وعظيم الشأن؛ ولـذلك حينما نتحدث عنه، وعمَّا كان عليه، وعن قضيته، وعن دوره في الأُمَّة، فنحن نتحدث عنه وفي هذه المكانة العظيمة: مكانة الهداية والقدوة، كرمزٍ عظيم من رموز الإسلام، ومن هداة الأُمَّة.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في نهضته، وهو استشهد في العام مائة واثنين وعشرين للهجرة، كانت نهضته امتداداً لنهضة جده الحسين "عَلَيْهِمَا السَّلَامُ"، ولذلك كان يقول الكثير من أهل البيت عن قيامه: (قام مقام صاحب الطف)، يعنون الحسين "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فحركته، ونهضته، وقيامه، امتدادٌ لقيام ونهضة جده الحسين "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، والمرحلة التي نهض فيها كانت مرحلةً حساسةً وخطيرةً جدًّا، فهي مرحلةٌ استحكمت فيها سيطرة الطغيان الأُمَوِي على الأُمَّة الإسلامية بشكلٍ رهيب، بكل ما فيه من ظلمٍ، وظلماتٍ، وإضلالٍ، وإفسادٍ، وبكل ما فيه أيضاً من إذلالٍ واستعبادٍ للأُمَّة الإسلامية، في مقابل حالة السكوت، والاستسلام، والخنوع، والخضوع، واليأس، في أوساط الأُمَّة.

كانت الأُمَّة ما بعد استشهاد الإمام الحسين "عَلَيْهِ السَّلَامُ" قد تحركت ونهضت في ثوراتٍ متتالية، في مناطق متفرقة، إضافةً إلى الصراع الزبيري الأُمَوِي، ولكن ما بعد ذلك عادت السيطرة الأُمَوِيَّة على الأُمَّة من جديد، واستحكمت القبضة الأُمَوِيَّة على الأُمَّة الإسلامية بكلها بشكلٍ كامل، بكل ما تمتلكه من رصيدٍ إجراميٍ ظلاميٍ رهيبٍ جدًّا، الطغيان الأُمَوِي، الذي دمَّر وأحرق الكعبة المشرفة، واستباح المدينة المنورة، وأباد عترة رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، وصحابته أيضاً، الطغيان الأُمَوِي الذي استهتر بكل المقدسات الإسلامية، واستخف بالقرآن الكريم واحتقره، واستخف برسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ".

في مجالس حُكَّام بني أُمَيَّة، كان اليهود يحضرون في تلك المجالس بشكلٍ محترمٍ ومقدَّر، يحظون بالمكانة الكبيرة، ويتصدَّرون تلك المجالس، ومنها يوجِّهون سبهم وإساءتهم إلى رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، ويوجِّهون سخريتهم منه، في إصغاءٍ تام من أولئك الحُكَّام، الذين يقدِّمون أنفسهم على أنهم حُكَّام للأُمَّة الإسلامية، ويسمُّون أنفسهم بإمرة المؤمنين، ويسمُّون أنفسهم أيضاً بالخلفاء، في ذلك المظهر الواضح جدًّا في الاستهتار التام بأقدس مقدَّسات المسلمين والإسلام، فلا الكعبة لها حرمتها، ولا المدينة كذلك لها حرمةٌ عندهم، ولا هناك أي حرمة للمسلمين، حتى على مستوى الصحابة، وعلى مستوى آل رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، ولا حرمة لأي شيءٍ من حرمات الإسلام، وإذلالٌ تامٌ للأُمَّة بشكلٍ عام.

فوصل بهم الحال في قبضتهم تلك، وفي سيطرتهم على الأُمَّة، أن ((اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَغَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا، وَمَالَهُ دُوَلًا))، كثَّفوا كل جهودهم لإضلال الأُمَّة، وتحريف مفاهيم الإسلام، وطمس الكثير من معالمه، وعملوا أيضاً بشكلٍ كبير على أن تتحوَّل وضعية الأُمَّة تحت سيطرتهم وضعية الاستعباد، والإذلال، والخضوع التام، الذي تفسره هذه العبارة، وتعنيه هذه الجملة: ((وَعِبَادَهُ خَوَلًا))، أرادوا لِلأُمَّة أن تقبل بهذا النوع من العلاقة ما بينها وبينهم كحكامٍ مسيطرين عليها: علاقة العبودية، والخضوع التام، والطاعة لهم، والطاعة لهم في معصية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، وفي مخالفة القرآن الكريم، وفي مخالفة تعاليم الإسلام الواضحة.

وهناك الكثير جدًّا من التفاصيل في سلوكهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وممارساتهم، التي- فعلاً- تثبت هذه الحقائق، تُبَيِّن كيف اتَّجهوا لمحاربة مفاهيم الإسلام، وتزييف هذه المفاهيم بمفاهيم بديلة، تُحسب على الإسلام زوراً، ويعملون على أن تدين بها الأُمَّة، وكذلك في ممارساتهم الظالمة، والإجرامية، والوحشية، الفظيعة جدًّا.

كتب التاريخ للأُمَّة بشكلٍ عام، وليست فقط محسوبةً على فئةٍ معيَّنة، أو مذهبٍ معيَّن، التواريخ المحسوبة على كل فرق الأُمَّة تحكي هذه الحقائق، وسطَّرتها لدى الجميع، وهي تفاصيل كثيرة جدًّا، يمكن للناس أن يعودوا إليها، وأن يدركوا من خلالها فظاعة ما كان يحدث، وأهمية وعظمة ما قام به الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في نهضته المباركة، فهم- كما قلنا- ((اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَغَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا، وَمَالَهُ دُوَلًا))؛ فاستأثروا بخيرات الأُمَّة في ترفهم، وفي تعزيز نفوذهم وسيطرتهم، وفي شراء الذمم وشراء الولاءات.

في ظل تلك الوضعية، التي- كما قلنا- قابلها خنوعٌ من الأُمَّة؛ بسبب السطوة، والجبروت، والظلم الشديد، والتنكيل الذي كان يمارسه طغاة بني أُمَيَّة تجاه الأُمَّة، كان تحرُّك الإمام زيد "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في تلك الظروف الصعبة جدًّا تحرُّكاً مهماً وعظيماً، يستند إلى دافعٍ إيمانيٍ عظيم، وإلى كمال وعيٍ وإيمانٍ على مستوىً عظيم.

وهناك معالم أساسية في نهضة الإمام زيدٍ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، عَمِل عليها على مدى سنوات، حتى لقي الله شهيداً، والعنوان الجامع لكل تلك المعالم، والتي تتفرَّع عنه كل تلك المعالم، هو: سعيه "عَلَيْهِ السَّلَامُ" لإعادة ارتباط الأُمَّة بالقرآن الكريم، على أساس الاهتداء والاتِّباع العملي، وهذه قضية مهمة، وقضية جوهرية؛ لأن علاقة الأُمَّة بالقرآن الكريم، في ظل سيطرة الطغاة، والظالمين، والمجرمين، والمضلِّين، تتحوَّل إلى علاقةٍ شكلية؛ يبقى القرآن الكريم بين أوساط الأُمَّة، تقوم الأُمَّة بتعليمه للقراءة، للتلاوة؛ ولكن مستوى الاهتداء به، والتَّمَسُّك بمفاهيمه بشكلٍ صحيح، والاتِّباع العملي له كمنهجٍ للحياة، وأساسٍ تتحرَّك على أساسه الأُمَّة في كل المواقف، وفي كل المجالات، يُغَيَّب هذا عن الأُمَّة بشكلٍ كبير، تبقى شعائر محدودة تتحرَّك فيها الأُمَّة، ويقبل بها الطغاة بعد أن يفرِّغوها من محتواها المهم والمؤثِّر، وبعد أن يفصلوها عن غيرها من الأمور المهمة، التي تعطيها فاعلية، وتترك لها الأثر الكبير في نفوس أبناء الأُمَّة.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" كانت صلته بالقرآن وثيقة، وعلاقته بالقرآن عظيمة، وتميَّز بذلك؛ حتى عُرِف في المدينة المنورة بحليف القرآن، أصبح هذا لقب يُلَقَّب به، وعنواناً يُطلق عليه (حليف القرآن).

عُرِفَ أيضاً وظهرت معرفته الواسعة بالقرآن الكريم، في نشاطه التثقيفي، والتوجيهي، والتعليمي، في رسائله، في مناظراته، في لقاءاته... في مختلف أعماله، التي يسعى من خلالها إلى تبصير الأُمَّة، وإلى إعادة ارتباطها بالقرآن الكريم، وإلى تصحيح المفاهيم المغلوطة والظلامية.

عُرِفَ أيضاً واتَّضح جلياً مدى هذا الارتباط بالقرآن الكريم، القرآن الكريم حاضرٌ بآياته ونصوصه المباركة بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في كل نشاطه، في كل تذكيره، في كل رسائله، في كل حركته في الأُمَّة، وكان ذلك ولا يزال جلياً واضحاً؛ لأن الكثير من رسائله موجودة، مطبوعة، معروفة، موثَّقة، تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، ويتَّضح من خلالها هذا الارتباط بالقرآن الكريم، وهذه الصلة الوثيقة العظيمة بالقرآن الكريم.

كان يسعى إلى أن يكون ارتباط الأُمَّة بالقرآن الكريم على هذا الأساس: ارتباط الاهتداء، والتَّمَسُّك، والالتزام، والاتِّباع، وأن يعود للقرآن الكريم تعود له هيمنته الثقافية؛ من أجل تصحيح كل المفاهيم التي لا تنسجم معه، في مواجهة كل حالات التزوير، والتزييف، والإضلال، والدَّسّ، التي كان قد عمل عليها طغاة بني أُمَيَّة.

ومن كلامه "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في هذا السياق، قال "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ((وَأُوصِيكُم أَنْ تَتَّخِذُوا كِتَابَ اللهِ قَائِداً وَإِمَاماً، وَأَنْ تَكُونُوا لَهُ تَبَعاً فِيمَا أَحْبَبْتُم وَكَرِهْتُم، وَأَنْ تَتَّهِمُوا أَنْفُسَكُم وَرَأيَكُم فِيمَا لَا يُوافِقُ القُرْآن، فَإِنَّ القُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَنِ اِسْتَشْفَى بِهِ، وَنُورٌ لِمَنِ اِقْتَدَى بِهِ، وَنُورٌ لِمَن تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَن تَبِعَهُ، مَنْ عَمِلَ بِهِ رَشِد، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَل، وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَج، وَمَنْ خَالَفَهُ كَفَرَ، فِيْهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُم، وَخَبَرُ مَعَادِكُم، وَإِلَيهِ مُنْتَهَى أَمْرِكُم))، هكذا كان يسعى إلى أن تعود علاقة الأُمَّة بالقرآن الكريم: علاقة الاهتداء والاتِّباع؛ ليكون القرآن هو قائدها وإمامها، هكذا سعى "عَلَيْهِ السَّلَامُ".

وقال "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ((فَلَعَمْرِي إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُهُم بِالقُرْآنِ، وَأَنَّ أَهْدَى النَّاس لَمَن عَمِلَ بِهِ، المُتَّبِعُ لِمَا فِيه، وَلَقَدْ قَالَ اللهُ "جَلَّ ثَنَاؤه": {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9])).

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" يعرف أن مشكلة الأُمَّة تتلخَّص في أزمة علاقتها بالقرآن الكريم، كان لهذا أثره الكبير على الأُمَّة في كل شيء، بدءاً من علاقتها الإيمانية بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، علاقة مع الابتعاد عن القرآن، ونقص الاهتداء بالقرآن، ونقص التَّمَسُّك بالقرآن الكريم، هبطت إلى مستوى رهيب جدًّا، بحيث يصبح الانتماء للكثير من أبناء الأُمَّة إلى الإسلام وإلى الإيمان انتماءً شكلياً، الواقع العملي في كثيرٍ من تفاصيله، والحياة في كثيرٍ من مجالاتها، في اتِّجاهٍ آخر، بعيدٍ عن القرآن الكريم، وكان لهذا أثره السلبي والسيء على المستوى النفسي والمعنوي في واقع الأُمَّة، ثم كذلك على المستوى العملي؛ ثم يتفرَّع عن هذا العنوان الجامع والكامل تفاصيل مهمة.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" كان من العناوين التي ركَّز عليها في إطار هذا العنوان الجامع: عنوان (البصيرة) ويعني: الوعي، ((البَصِيرَةُ البَصِيرَة))، كان ينادي في الناس: ((عِبَادَ الله، البَصِيرَةُ البَصِيرَة))، الأُمَّة بحاجة إلى الوعي، من أهم ما تحتاج إليه الأُمَّة هو الوعي، الوعي القرآني الذي يعطي الأُمَّة بصيرةً عالية، وفهماً صحيحاً، عن الإسلام، عن مسؤوليتها عن أعدائها، عن واجباتها، عن المخاطر الحقيقية عليها، الوعي الذي تحتاج إليه الأُمَّة في مواجهة كل فئات الضلال، كل فئات الباطل، كل الظالمين والمستكبرين والطغاة، والأُمَّة بحاجة ماسَّة إلى الوعي، وإلى البصيرة، ومن أهم عطاءات القرآن الكريم هو الوعي العالي، الذي يُحَصِّن الأُمَّة من كل أشكال الاستهداف بما يسمَّى بالحرب الناعمة: الاستهداف الفكري، الاستهداف الإعلامي، الاستهداف الثقافي... كل أشكال الاستهداف التي تندرج بكلها تحت عنوان الضلال والإضلال، وهي من أخطر ما تُستهدف به الأُمَّة من فئات الضلال من اليهود، والنصارى، وسائر الكافرين، وفئات الضلال المحسوبة على الأُمَّة، والتي تعمل بما يخدم أعداء الأُمَّة.

الله قال عن القرآن الكريم: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}[الأنعام:104]، الأُمَّة بحاجة إلى البصيرة، إلى الوعي، من خلال القرآن الكريم، بدون البصيرة تعمى القلوب، وتغيب عن الناس الكثير من الحقائق، تكون الأُمَّة ويكون الكثير من أبناء الأُمَّة في قابلية تامَّة لأن يُخْدَعوا، لأن يُضِلَّهم المضلُّون، لأن تؤثِّر عليهم كل الأنشطة التي تأتي من أعدائهم بهدف إضلالهم، عُرضة للتأثر بالحملات الدعائية، عُرضة للتأثر بالحملات ذات الطابع التثقيفي والفكري، التي هي مليئةٌ بالشُّبَه والأباطيل؛ لإضلال الكثير من الناس، في حالة الفراغ من التَّحَصُّن بهدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، ومفاهيم القرآن، وبصيرة القرآن، تعمى القلب، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46].

من العناوين التي سعى الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" لإحيائها: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من المبادئ التي يعمل الطغاة والمستكبرون على تحريف معانيها من جهة ومضامينها، وعلى إضاعتها من واقع الأُمَّة من جهةٍ أخرى، وهو من العناوين المهمة في القرآن الكريم؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهام الكبرى للأُمَّة الإسلامية، ومما أكَّد الله عليه في القرآن الكريم كثيراً، بل ارتبطت خيرية هذه الأُمَّة بها، وهي ميزةٌ كبرى في خيرية أخيار هذه الأُمَّة، وهداة هذه الأُمَّة؛ ولهـذا قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى" في القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، فأخيار هذه الأُمَّة وهداتها، بدءاً برسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، كان من أعظم ما تميَّزوا به، وما كانوا به أخياراً، هو هذه المواصفات العظيمة:

-         الأمر بالمعروف.

-         والنهي عن المنكر.

-         والإيمان بالله تعالى.

ومسؤولية الأُمَّة أن تسير بسيرتهم، وأن تحذو حذوهم، في النهوض بهذه المسؤولية الكبرى، والمقدَّسة، والعظيمة؛ لكي تكون الأُمَّة في ارتباطها بالمعروف، ارتباط الالتزام من جهة، وارتباط الأمر به والتَّحَرُّك به كمسؤولية من جهةٍ أخرى، تكون علاقتها أيضاً في إطار هذا العنوان، وهذه المسؤولية الكبرى، فيما يتعلَّق بالنهي عن المنكر: الانتهاء عن المنكر، ومحاربة المنكر، وتطهير ساحتها من المنكر، والنهي عن المنكر كمسؤولية، تحاربه، تسعى لإزالته، تسعى للتَّصَدِّي له، لا تتقبَّله أبداً، تدرك أن هذا من أهم مسؤولياتها المقدَّسة، من أهم دلائل إيمانها بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، تتحرَّك في إطار كل هذه المسؤولية من منطلقٍ إيمانيٍ: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، كما قال تعالى أيضاً في القرآن الكريم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104].

لأن الأُمَّة إذا أضاعت هذه المسؤولية، اتَّجهت الأمور بشكلٍ معاكس؛ فيكون المعروف محارباً حتى في أوساطها، فهي تُمنع من المعروف، وينهاها منافقوها، والكافرون أيضاً من أعدائها، ينهونها عن المعروف بكل ما يدخل ويندرج تحت عنوان المعروف، من معالم الإسلام، وشرائع الإسلام، وتفاصيل الحق في واقع الحياة وشؤون الحياة، ثم تتحوَّل الأُمَّة إلى أُمَّة تؤمر بالمنكر، يأمرها المنافقون، الذين قال الله عنهم في القرآن الكريم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}[التوبة:67]، وكذلك أعداؤها، في المقدِّمة: اليهود، وأعوانهم وأولياءهم من النصارى ومن غيرهم، الذين مسيرتهم في الحياة هي في هذا الاتِّجاه السيء: الصادّ عن سبيل الله، المحارب للحق، والعدل، والخير، والقيم الإنسانية الفطرية، التي هي من الله فطرها في نفوس عباده، فهم يتَّجهون للأمر بالمنكر، بكل المفاسد، بكل المظالم، تبرز في مسيرتهم العملية، في سياساتهم، في توجُّهاتهم، في مواقفهم في ما يفرضونه على الناس في كل المجالات: في المجال السياسي، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي؛ فيتحوَّل المنكر ليكون هو السائد والمسيطر والمهيمن في الساحة، ويعملون على أن يتحوَّل المعروف إلى غريبٍ في واقع الأُمَّة، مستهجن وغير مقبول، يواجه بالسخرية والازدراء، وبالمحاربة والمنع.

فالإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" سعى من جديد إلى إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن نقص هذا المبدأ العظيم، وشطبه من التزامات الأُمَّة الإيمانية والدينية، يغيِّر واقع الحياة إلى واقعٍ مظلم، مليءٍ بالمفاسد، والجرائم، والمظالم، والمنكرات، وهذا نقصٌ رهيبٌ جدًّا، يحوِّل الإسلام إلى حالة شكلية، فيه القليل من الطقوس والشعائر في واقع الأُمَّة؛ فتكون هذه الأُمَّة أُمَّة إسلامية، تنتمي للإسلام، ولكن واقعها مليء بالظلم، والفساد، والمنكرات، والجرائم، والفظائع، وهذا بعيد عن ثمرة الإسلام، التي هي ثمرة مختلفة تماماً، هي الحق، هي الخير، هي العدل، هي مكارم الأخلاق، هي كل ما يعبِّر عن الخير في امتداداته في واقع الحياة.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" عندما رفرف لواء الحق في قيامه "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، قال: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لِي دِينِي، أَمَا وَاللهِ لَقَد كُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَقْدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ آمُر فِي أُمَّتِهِ بِمَعْرُوف، وَلَمْ أَنْهَ عَنْ مُنْكَر))، كان فعلاً يدرك أهمية إحياء هذه الفريضة المقدَّسة والعظيمة، وخطورة نقصها في الدين نفسه، حينما يصبح دين الأُمَّة ديناً ناقصاً، فتغيب ثمرته عن واقع حياتها.

في هذا السياق نفسه، كان يكرِّر مقولته في مقامات متعدِّدة، عن أهمية الشعور بالمسؤولية، والتَّحَرُّك لإصلاح واقع الأُمَّة، ومواجهة الفساد، والظلم، والجور، والطغيان، بقوله "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ((وَاللَّهِ مَا يَدَعُنِي كِتَابُ اللَّهِ أَنْ أَسكُت، كَيفَ أَسكُت وَقَد خُولِفَ كِتَابُ اللَّهِ، وَتُحُوكِمَ إِلَى الجِبْتِ وَالطَاغُوتِ))، كان يقول: ((وَاللَّهِ مَا يَدَعُنِي كِتَابُ رَبِّي أَنْ أَكُفَّ يَدِي))... وهكذا كان يذكِّر الأُمَّة بهذه المسؤولية، وهو يسعى إلى تحريرها، وإنقاذها من حالة العبودية للطاغوت، وإنقاذها من حالة الذُّلّ، التي استحكمت في واقع الأُمَّة؛ فقيَّدت الأُمَّة، وكبَّلتها، وأخضعتها للطاغوت، وأفقدتها الثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، كان يقول "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ((وَاللَّهِ مَا كَرِهَ قَومٌ قَطُّ حَرَّ السُّيُوف إِلَّا ذَلُّوا)).

حينما تفقد الأُمَّة تربية القرآن الكريم، وروحية القرآن الكريم، تصل إلى ذلك المستوى المتدنِّي من: الهبوط في روحها المعنوية، وفقدان الثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، والنقص الكبير في الشعور بمسؤوليتها؛ حينها تصل إلى حالة التَّهَيُّب والتَّخَوُّف من مواجهة الباطل والضلال، تشعر بالضعف واليأس، تفقد الثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، وتفقد الدافع الإيماني، والعِزَّة الإيمانية؛ فتقبل بالإذلال، وتقبل بالهوان؛ تَهَيُّباً وخوفاً من المواجهة للطاغوت وللظالمين، ((مَا كَرِهَ قَومٌ قَطُّ حَرَّ السُّيُوف إِلَّا ذَلُّوا))، كان يقول أيضاً: ((مَنِ اسْتَشْعَر حُبَّ البَقَاءِ، اسْتَدثَر الذُّلّ إِلَى الفَنَاءِ))، حينما يصبح هَمُّ الإنسان فقط أن يبقى في هذه الحياة على أي وضعيةٍ كان، في وضعية الذُّلّ، والخنوع، والباطل، والاستسلام للطغاة والمجرمين والمفسدين؛ تتحوَّل الحالة إلى حالة سيئة، يتهيَّب من أن يتحرَّك في سبيل الله؛ مخافة أن يُستَشهد.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في عطائه العظيم، وتضحياته الكبيرة، لم تَضِع جهوده سُدىً، بل امتد هذا العطاء عبر الأجيال، أرسى مدرسةً لامتداد الحق، تبقى في كل زمن، وستبقى إلى قيام الساعة.

الإمام زيدٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، بالرغم مما عاناه من تخاذل الكثير من أبناء الأُمَّة، إلَّا أنه كان مُصَمِّماً، عازماً على القيام بواجبه، والنهوض بمسؤوليته، وكما قال: ((لَو لَم يَخْرُج مَعِي إِلَّا ابنِي يَحْيَى لَقَاتَلْتُهُم))، يعني: يحيى بن زيد، إلى هذه الدرجة من التصميم، والعزم، والثبات، والتفاني في سبيل الله تعالى، وعلى الرغم أيضاً مما واجهه من طغاة بني أُمَيَّة من الظلم، قتلوه، بعد قتله صلبوا جسده لأربع سنوات وهو في حالة الصلب، بعد استشهاده "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، بعد أربع سنوات من الصلب قاموا بإحراق جسده حتى حوَّلوه إلى رماد، ثم ذلك الرماد جعلوا جزءاً منه يُذرى في مهبِّ الريح وفي البر، وجزءاً منه يُذرى في النهر... هكذا حاولوا ألَّا يبقى منه شيء، وظنُّوا أنَّهم بذلك يطفئون نهجه، وينهون أثره في الأُمَّة؛ لكنَّهم فشلوا فشلاً تامّاً.

واصل بعده ابنه يحيى- يحيى بن زيدٍ "عَلَيْهِمَا السَّلَامُ"- مساره، وحمل رايته، واستمر في جهاده، واستُشهِد بعد استشهاد أبيه بأربع سنوات، ما بعد ذلك، بعد استشهاد الإمام زيد "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، لم يبقَ الطغيان الأُمَوِي، والسلطة الأُمَوِيَّة في سيطرتها على الأُمَّة، وفي حكمها على الأُمَّة، سوى عشر سنوات، وانتهت تماماً وسقطت في ثورة خُراسان العارمة، والتي نادت في شعاراتها بـ: ثارات الإمام الحسين، وثارات الإمام زيد، وثارات الإمام يحيى بن زيد "عَلَيْهِمُ السَّلَامُ"؛ فبقي هذا الأثر الممتد، ليحقِّق في نهاية المطاف النجاح التام:

-         في إسقاط الحكم الأُمَوِي الظالم، المتسلط، المفسد، المضلّ، المستعبد لِلأُمَّة من جهة.

-         ومن جهةٍ أخرى أيضاً: في امتداد الحق، هذه التضحية، هذا القيام، هذا الجهاد، أعطى للحق دفعاً وامتداداً في أوساط الأُمَّة؛ ليستمر جيلاً بعد جيل.

والأُمَّة اليوم هي أحوج ما تكون إلى أن تحيا بالقرآن الكريم من جديد؛ لتصحيح وضعيتها، نجد كل هذه العناوين الكبرى، في نهضة الإمام زيدٍ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، هي عناوين تحتاج إليها الأُمَّة في هذا العصر، بمقدار حاجتها إليها في ذلك العصر، وأكثر من ذلك، وأكثر من ذلك.

الأُمَّة بحاجة إلى أن تحيا بالقرآن الكريم من جديد؛ لتصحح وضعيتها، ولتشعر بمسؤوليتها، ولتتحرَّك في هذا العصر ضد الطغيان الأمريكي الإسرائيلي، الذي هو خطرٌ على هذه الأُمَّة في منتهى الخطورة:

-         خطرٌ في الاستعباد والإذلال لهذه الأُمَّة.

-         في الظلم والقهر لهذه الأُمَّة.

-         في الإفساد في الأرض، والإفساد لواقع الحياة، والإفساد لهذه الأُمَّة.

-         في الاستهداف لمقدَّساتها، وطمس معالم إسلامها.

-         في الخطر بكل أشكاله على هذه الأُمَّة: على أوطانها، وحياتها، وأمنها، واستقلالها، وحُرِّيَّتها، وكرامتها... وكل شيءٍ مهمٍ لها.

الخطر الأمريكي الإسرائيلي هو كبيرٌ جدًّا على هذه الأُمَّة، والسبيل الصحيح- بحكم القرآن، وفق آيات القرآن الكريم، وبشهادة الواقع، وبشهادة التاريخ- هو: التَّحَرُّك الجاد على أساسٍ من الاهتداء بالقرآن الكريم، والانطلاقة الإيمانية في سبيل الله تعالى، بالاعتماد على الله، بالثقة به، بالتَّوَكُّل عليه "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، بالاهتداء بنوره؛ للتَّصَدِّي للخطر الأمريكي والإسرائيلي، في كل هجمته على هذه الأُمَّة:

-         في هجمته بالحرب التي تسمَّى بالحرب الناعمة: حرب الإضلال والإفساد.

-         وأيضاً في الحرب الصُلبة: حرب العدوان العسكري، والقتل، والتدمير، والإبادة... وغير ذلك.

في واقع هذه الأُمَّة، وتجاه هذا الخطر، تشاهد الأُمَّة جمعاء، ومن يتابع الأحداث، حجم المأساة والمظلومية للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، كجزءٍ من هذا الخطر، انصب على شعبٍ من أبناء هذه الأُمَّة؛ وإلَّا هو خطرٌ عليها بكلها، خطرٌ يطالها، أضراره قائمةٌ في واقعها، مؤامراته، مخاطره، تأثيراته، قائمةٌ في كل واقع الأُمَّة، وفي كل المجالات، وتعاني منه الأُمَّة معاناةٍ كبيرة، أبصر ذلك من أبصره، وعمي عنه من عمي عنه.

لكن فيما يتعلَّق بما يحدث على الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، مأساة رهيبة جدًّا، ومظلومية كبرى، الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة هو الآن في أصعب مرحلة من مراحل التجويع، هناك القتل، هناك التدمير، الإبادة الجماعية، وهناك أيضاً التجويع، الذي وصل إلى مرحلة في غاية الصعوبة، الأطفال يموتون من الجوع، يُستشهدون من الجوع بشكلٍ يومي، بل أحياناً على مدار الساعة هناك وفيات من الجوع الشديد، والمجاعة الشديدة.

العدو الإسرائيلي هندس مسألة مصائد الموت، في قضية المساعدات الإنسانية التي يتحكم بها، ويجعل منها مصائد للقتل والإبادة، ومع ذلك يبقى الكثير في حالة جوعٍ شديد، ومأساةٍ رهيبة، وهم بين أوساط الأُمَّة، فلسطين في المنطقة العربية، بين أوساط العرب وأوساط المسلمين، بين مئات الملايين من العرب، بين ملياري مسلم يتفرَّجون، كأنهم أُمَّةٌ عاجزة لا تستطيع أن تدخل قُرصاً من الخبز، رغيفاً واحداً من الخبز، أو كأساً من الماء، أو حبَّة دواء، ولا شيء! تفرُّج كامل على ما يحدث، وكأنهم أُمَّةٌ لا يعنيها ما يحدث، هذا التَّفَرُّج، هذا التَّنَصُّل عن المسؤولية، هو يشكِّل خطورةً بالغةً على هذه الأُمَّة، في المسؤولية بينها وبين الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى"، تؤاخذ على ذلك في الدنيا، وتؤاخذ عليه في الآخرة، هي حالة خطيرة جدًّا، وهي حالة تكشف عن حجم التدني في واقع هذه الأُمَّة: على مستوى الوعي، على مستوى المشاعر الإنسانية، على مستوى مكارم الأخلاق، نقص حتى عمَّا كانت عليه في أيام الجاهلية الأولى، في كثيرٍ من القيم: في النخوة، والشهامة... قيم مهمة جدًّا غابت عنها إلى حدٍ رهيبٍ جدًّا.

هذا- بحد ذاته- يكشف حاجة الأُمَّة إلى أن تُصَحِّح وضعيتها، وفق سُنَّة الله تعالى في التغيير: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11]، هذه الحالة مخزية، مخزية جدًّا للعرب في المقدِّمة، ولبقية المسلمين، أن يتفرَّجوا على ما يحدث، المشاهد المأساوية لأطفال فلسطين، الذين يموتون من الجوع، من التجويع في قطاع غزَّة، على مرأى ومسمع الأُمَّة، هي مشاهد مخزية، هي مأساوية، ومخزية لهذه الأُمَّة، وتكشف حجم التخاذل الرهيب، الذي جعل العدو الإسرائيلي ومعه الأمريكي يطمئنان تماماً، إلى أنهما مهما فَعَلَا ضد الشعب الفلسطيني، فلن يكون هناك ردة فعل قوية من أبناء هذه الأُمَّة، الحالة خطرة جدًّا.

شعبنــا اليمنــي، في تحرُّكه المتكامل، والمستمر منذ بداية العدوان على غزَّة، وبثباته على موقفه، بالرغم من كل ما يواجهه، من:

-         عدوانٍ عسكري، في جولتين متتاليتين، عدوان (أمريكي، وبريطاني، وإسرائيلي)، آلاف الغارات الجوِّيَّة على بلدنا.

-         ثم أيضاً ترافق مع ذلك الحصار الشديد، الحصار حتى في الملف الإنساني والمساعدات الإنسانية، والتقليص الكبير جدًّا فيما حصل في ذلك، وهو معروف، والحصار بشكلٍ عام على شعبنا العزيز.

-         والحرب الاقتصادية الممنهجة والمنظَّمة، بكل أدواتها الموالية لأمريكا وإسرائيل.

-         ومع ذلك الحرب الدعائية الهائلة جدًّا.

-         وكل مساعي الاختراق الدعائي والأمني، ومساعي الاستقطاب، ومحاولات التفكيك لتوجُّه هذا الشعب، وصرفه عن الاهتمام بقضاياه الكبرى، وبهذه القضية الفلسطينية التي تعنينا جميعاً؛ باعتبار الشعب الفلسطيني جزءاً منا، ومظلوميته وهي مظلوميةٌ لكل الأُمَّة؛ وباعتبار الخطر الأمريكي الإسرائيلي خطر علينا وعلى كل هذه الأُمَّة.

شعبنا بهذا الثبات هو منطلقٌ من منطلقٍ إيمانيٍ ثابتٍ وراسخ، وهو يعي ويستبصر ببصيرة القرآن الكريم؛ ولـذلك- وهو بفضل الله تعالى- فشلت كل مساعي الأعداء في ثنيه عن هذا التَّوَجُّه؛ ولـذلك شعبنا سيواصل مساره، في التَّحَرُّك الفاعل والجاد في كل المجالات:

-         في العمليات العسكرية المستمرَّة.

-         في الأنشطة الشعبية المكثَّفة.

-         في التعبئة العسكرية، في كل أنشطتها المهمة، من تدريبٍ، وتأهيلٍ... وبقية الأنشطة العسكرية فيها.

اتِّجاهنا في التَّحَرُّك في مسارنا ضد الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، وامتداداته في الأُمَّة، هو اتِّجاهٌ نتحرَّك فيه ببصيرة القرآن الكريم، وبالمنطلق الإيماني في سبيل الله تعالى، وهو اتِّجاهٌ أصيل، يمتد في هذه الأُمَّة، امتداده عبر الأجيال، يصل إلى التأسي والاقتداء برسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، الذي قدَّم لنا دين الله ديناً متكاملاً، وعلى أساس القرآن الكريم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، يمتد أيضاً عبر هداة الأُمَّة، من عترته الأطهار، وأخيار الأُمَّة الأبرار عبر الأجيال؛ ولـذلك موقفنا ثابتٌ في نصرة الشعب الفلسطيني، والتَّصَدِّي للطغيان الأمريكي والإسرائيلي، ونحن واثقون بوعد الله الحق، في تحقيق النصر، وفي أنَّ العاقبة للمتقين.

أَسْأَلُ اللهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يَكْتُبَ أَجْرَكُم عَلَى هَذَا الحُضُورِ المُشَرِّف وَالكَبِير فِي إِحيَاءِ هَذِهِ الذِّكرَى.

وَنْسَألُ اللهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَاَلَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، وَأَنْ يُعَجِّلَ بِالفَرَجِ وَالنَّصْرِ لِلشَّعْبِ الفِلَسْطِينِيِّ المَظْلُوم، وَلِمُجَاهِدِيهِ الأَعِزَّاء.

وَالسَّـــــلَامُ عَلَـيْكُـــمْ وَرَحْـمَـــــةُ اللَّهِ وَبَــرَكَاتـــُهُ؛؛؛