• العنوان:
    صوتُ الحق الهادر: زيد بن علي وثورتُه الخالدة
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

في مسار الثورات الإسلامية الكبرى، لم يكن الإمام زيد بن علي عليه السلام مُجَـرّد قائد عسكري خرج على حكم ظالم، بل كان صوت وعي، ومشروع كرامة، وخطابه لم يكن انفجار غضبٍ عابر، بل صياغة مبدئية دقيقة لموقفٍ يتصل بجوهر الإسلام وينبع من صميم مدرسة أهل البيت عليهم السلام. 

لقد كان الإمام زيد ناطقًا باسم المظلومين، ومجدّدًا لصيحة الإصلاح في الأُمَّــة، ومن خلال خطابه الثوري، جسّد معنى الثورة المؤمنة التي ترتكز على الحجّـة، وتعتمد في شرعيتها على إرث النبوة، وتستمد قوتها من القرآن الكريم وروح العدل الإلهي.

انطلق الإمام زيد في خطابه من وعيٍ تاريخي عميق، لم يكن مقطوعًا عَمَّا جرى في سقيفة بني ساعدة، ولا غافلًا عن التحول الذي طرأ على الحكم الإسلامي حينما تحوّل إلى ملكٍ عضوض. كان خطابه يؤسس للفهم النقي للإسلام، ويعيد الاعتبار لمرجعية النبي وآله في قيادة الأُمَّــة. لم يكن يبحث عن ملك ولا يغريه سلطان، وإنما كان يقولها بوضوح: "البصيرةَ البصيرةَ ثم الجهاد". هذا البيان يُعيدنا مباشرة إلى مواقف جده الحسين عليه السلام، ويجعل من زيد حلقة من سلسلة المواقف الكبرى التي حفظت روح الإسلام من التزييف.

ولم تكن بلاغته في الألفاظ فحسب، بل في الصدق الصارخ الذي تميّز به، حين خاطب الناس قائلًا: "أما والله ما كره قوم حرّ السيوف إلا ذلّوا"، وهنا تتجلى فلسفته في العزة، حَيثُ كان يرى أن الخنوع للظالمين يُنتج الذلّ والضياع، وأن الصمت جريمة. كان زيد واضحًا في تسمية خصومه، لا يداور ولا يهادن، بل يشير صراحة إلى بني أمية وفسادهم، لا بوصفهم خلفاء، بل غاصبين، ويحدّد رأس الفساد في هشام بن عبد الملك الذي لم يكن عند زيد إلا صورةً للملك العضوض المنحرف عن الشريعة.

لقد تميّز خطابه بإحياءٍ دائم للآيات القرآنية؛ إذ كان يستدل بها ويجعل منها أَسَاسًا لموقفه. وعندما قرأ أحدهم أمامه آية المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...}، ظن أنه يستدل بها على زيد، فأهلكه الله في الحال، ووقع ميتًا، وهذا الحدث من جملة الشواهد التي تجعل من خطاب زيد خطابًا مؤيدًا برضا الله.

لقد كانت كربلاء ثانية حين دخل الإمام زيد الكوفة، حَيثُ استقبله الناس بالبيعة، اثنا عشر ألفًا، لكنه ما لبث أن بقي وحده إلا مع بضع مئات، بعدما خانته الكوفة من جديد. لكنه لم يتراجع، بل خطب فيهم خطبة عظيمة، أعاد فيها تعريف الغاية من خروجه، وأنه يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا طلبًا للسلطة، وكانت دموعه تنهمر حين يُذكَر له ما جرى على الزهراء، حتى قال باكيًا: "أما أحد يغضب لفاطمة؟! أما أحد يغضب لرسول الله؟!"، ليختصر بذلك واقعًا مريرًا من الغفلة والخذلان.

ولم يتوقف صوت زيد حتى بعد استشهاده، بل تحوّل إلى ملحمة. فقد صلبوه بالكُناسة، فكانت العنكبوت تأتي فتغطي عورته، وكان كُـلّ من آذاه أَو شتمه أَو تطاول عليه يُصاب بمصيبة عظيمة، فمنهم من شُلّت يده، ومنهم من انتثر لحمه، ومنهم من عُمي، وكان الناس يشمون من خشبته رائحة المسك، حتى سمع بعضهم هاتفًا يقول: "هكذا تكون رائحة أولاد النبيين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون".

وظل زيد على خشبته سنةً وأكثر، وقيل سنتين، حتى جاء الوليد بن يزيد فأمر بإحراق جثمانه ورميه في الفرات، فكانت تلك الجريمة تتويجًا لحقدٍ أموي دفين، لكنها لم تطفئ نور زيد، بل زادته تألقًا، وزاد خطابه إشعاعًا، وخلّده في وجدان الأُمَّــة الثائرة.

إن خطابَ الإمام زيد لم يكن مُجَـرّد وعظ أَو حماس ثوري، بل كان مشروعًا رساليًّا واضح الأركان، يتضمن الوعي، والحجّـة، والتضحية، والولاء، والصدق مع الله، والوفاء لرسول الله وآله الأطهار. ومَن تأمّل كلماته، علم أنها تنبع من روحٍ لا تتعلق بالدنيا، بل ترتفع لتخاطب الحق، وتحاكي أعماق المظلومين، وتصنع في النفوس يقظة لا تموت.

لقد رحل زيد جسدًا، لكن خطابه لا يزال بيننا، حيًّا، يُفزع الظالم، ويواسي المظلوم، ويبثّ في النفوس شوقًا للعدل، وحنينًا للحق، ويقول لكل من تخاذل يومًا: إن الكلمة الموقف، والصرخة العقيدة، والثورة المسؤولة، كلها كانت هنا، في خطبة زيد، في خروجه، في دمه، وفي صموده حتى آخر رمق.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولئك الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} صدق الله العظيم.